"خادمة وسجينة في منزلي": عربية أسترالية تشرح أسباب ترك منزل والديها

Alissar Gazal

أليسار غزال ممثلة ومنتجة لبنانية أسترالية Source: Alissar Gazal

احصل على تطبيق SBS Audio

طرق أخرى للاستماع

في هذه الحلقة من بودكاست "الهوية" تتحدث أليسار غزال عن الأسباب التي دفعتها كفتاة عربية، تعيش في كنف عائلتها في أستراليا، من انتظار الفرصة الأولى لتترك منزلهم. وكيف تحدت بعض العادات والتقاليد العربية التي تقيد الفتيات وتتحكم برغباتهن وطموحهن منذ الصغر.


اليسار غزال ممثلة وناشطة لبنانية أسترالية تحدت العادات والتقاليد التي شعرت ومنذ الطفولة بأنها سلبتها حريتها وكيانها كامرأة وهي تكبر في منزل العائلة.

وتتذكر ومنذ أن كانت تبلغ من العمر 8 سنوات قول والداها لها عندما تتساءل عن عدم السماح لها بالخروج للعب.

"أنت الفتاة الوحيدة في هذه العائلة، وعليك أن تساعدي والدتك. واخوتك الصبيان يمكنهم الذهاب للعب، ولكن أنت يجب بأن تقومي بالمهام المنزلية."
Alissar Gazal
أليسار غزال في لبنان Source: Alissar Gazal

الطفولة

عاشت أليسار طفولة بسيطة في قرية صغيرة في البقاع الغربي من لبنان. وبدأت تواجه تحدياتها مع هويتها كامرأة حرة منذ أن بدأت ترى وتشعر بقهر عند تنفيذ أوامر ومهمات لم تكن راضية عنها كطفلة. والأهم من هذا، أن هذه الأوامر كانت تفرض عليها فقط، وليس على اخوانها الصبيان.

يوم من مهامها الروتينية يتضمن: "يجب أن أنظف غرف النوم، وأساعد أمي في غسل الملابس ونشرها. ومن ثم تكنس أمي الأرض وأنا أقوم بمسحها."

"كان عليّ أن أركع على الأرض وأمسحها بقطعة من القماش، أعصر الممسحة بيدي الصغيرتين."

"تخيل، ما مدى قوة يدان طفلة الثمان سنوات هذه، لتسطيع أن تعصر الممسحة لتجف، حتى تستطيع بلها من جديد واستكمال المهمة؟"

ولو لم ترضخ وتنفذ هذه الأوامر والمهام كان العقاب حاضر.
كانوا يضربونني بالطبع! أنا من الجيل الذي تربى في منزل، ان لم يعجب أهلك ما تقولينه أو تفعلينه فيقومون بصفعك أو بضربك بالحذاء.

سن البلوغ

مر على هذا الحال بضعة أعوام. ومهامها في المنزل بدأت تزيد وتصعب، وعندما وصلت الى سن البلوغ، فرضت عليها قيود من نوع آخر.

"أنا كنت فتاة شقية جدا وأحب الحراك وتسلق الأشجار والجبال، عندما بلغت، بدأ والداي بتقييد حركتي."

"كان والدي يقول "اجلسي عاقة"، وإذا كنت أجلس وساقاي مفتوحتين وأنا أرتدي جينز كان يقول "ضمي ساقيك" ووالدتي أصبحت تفرض عليّ لبس الفساتين."

كانت السنة الي أتمت فيها أليسار 13 عاما، من أهم السنين في حياتها. الحياة المعيشية لم تعد تطاق في لبنان، بين ظروف الحرب وقلة فرص العمل، قرر والدها الهجرة الى أستراليا، البلد التي كان فيها بعض من أقاربهم، بحثا عن مستقبل أفضل للعائلة.

"المشاكل في لبنان موجودة منذ أن خلق لبنان، من عام 1921 حينما قرروا أنهم يريدون أن يبنوا وطنا. والدي سجن وعذب لدرجة أنه لم يتمكن من المشي عندما عاد لنا. وكان هناك أشخاص حالهم كحاله كثيرا. في لبنان، لم تكن تتمكن من أن ترفع رأسك أو صوتك، ولم يكن هناك مستقبل. وان لم يعجبك الحال على ما هو عليه، غادر البلاد."

الهجرة الى أستراليا

وصلت العائلة الى مطار سيدني الدولي في شهر آذار/مارس سنة 1973.  من ربيع بارد في لبنان الى خريف أستراليا الدافئ.

"أذكر هذا اليوم جيدا، كنت أمتص بسرعة عجيبة كل أرى وما يحصل من حولي، كالتلميذ المجتهد الذي لم تكفيه كتب العالم كلها ليدرسها."

سكنت أليسار مع عائلتها في مدينة سيدني في البداية، وبعد فترة قصيرة انتقلوا للعيش في الأرياف. عندها تمكنت العائلة من فتح مصلحة تجارية، لتصنيع القماش وبيعه، في بلدة بسيطة لم تكن بتطور سيدني ولا بانفتاحها.

وحالهم كان كحال الكثير من المهاجرين الى أستراليا، شكل عائق اللغة مشكلة كبيرة في البداية، اذ لم تتحدث العائلة كلمة انجليزية واحدة.

"كنت الوحيدة القادرة على تحدث الإنجليزية. كنت عيناهم أذناهم ولسانهم للترجمة في كل مكان، كانوا يعتمدون عليّ كثيرا."

كل شي كان غريب عليهم، والبساطة التي كان يحلم والدها أن يجدها في أرياف الولاية، كانت بعيدة جدا عن تخيلاته، وهذا أثار قلقه وأثار جانب جديد من شخصيته لم تكن أليسار تعرفه عنه.

"بدأ أن يقول لي أشياء غريبة لم أفهم قصده فيها، "نحن شرقيون، ونتبع عادات شرقية، واياك أن تفكري أنك ستكونين في يوم من الأيام أسترالية."

لعامين، حاولت أليسار أن تفرح بالهجرة التي كانت من المفترض أن تجلب معها حياة أفضل.
Alissar Gazal
Alissar Gazal - teenage years Source: Alissar Gazal

المراهقة

في هذه المرحلة من حياتها، ما بين الـ 14 وحتى 16 سنة، كانت تشعر وكأنها تختنق. قيود وقوانين انهمرت عليها من كل حدب وصوب، لم تعرف لأي منها ستتصدى ولأي منها ستسلم بالأمر الواقع.

حياتها الاجتماعية كانت محصورة بالذهاب الى المدرسة والى السوق مع والدتها. ولكن في هذه الفترة، كانت تحاول أن تطالب بحياة اجتماعية مختلفة عن تلك التي كانت تعيشها، حياة تحظى فيها فتيات كثيرات في عمرها، خصوصا في أستراليا.

"في المدرسة الثانوية كانوا يأخذوننا في رحلات وكان عندي بعض الأصدقاء. ولكن بعد الدوام المدرسي وفي عطلة نهاية الأسبوع لم يسمح لي بأن أرى أصدقائي بل كانت هذه العطلة للمكوث في المنزل أو مساعدتهم في العمل. ولو وددت أن أذهب للسينما كان عليّ أن أتوسل لأسبوع أو أكثر ليسمحوا لي بهذا. ولكن كانا يسمحان لأخوتي الصبيان بالذهاب الى أي مكان أرادوه."

بعد أن أتمت الـ 16 عاما، شهدت أليسار تحول كبير في حياتها، تعلمت القيادة. وهو الشيء الأول والوحيد في هذه الفترة الذي ساعدها على استنشاق بعض من هواء الحرية التي كانت تحلم بأن تشعر ببعض منها.

"أصبحت سائق والدي الخاص. آخذه الى كل مكان وأسافر به الى سيدني وأعود. أحببت ذلك كثيرا فقط لأبتعد عن المنزل الذي كل ما كنت فيه كنت أشعر وكأني خادمة، حتى لأخواني الذين كانوا أصغر مني."
Alissar Gazal
أليسار غزال ممثلة ومنتجة لبنانية أسترالية، اشتهرت بفيلم On the Ropes (2018) ، Fighting Season (2018) و I Luv U But (2012). Source: Alissar Gazal
"أليسار أحضري لي الماء، أليسار حضري لي الطعام... وإذا ذهبت مع والدتي للتبضع للمنزل، كنت أنا وأمي نحمل كل شيء بمفردنا من صناديق وأكياس وهم جالسين على الكنبة."

عدا عن التسوق والمشاوير التي تقوم بها أليسار للمنزل، كان لديها بعض الهويات بسيطة.

"إذا كنت أريد أن أهرب من المنزل نفسيا، عندما لم يكن أحدهم بحاجة لي، كنت أضع سماعاتي وأسمع الموسيقى. وكنت أحب القراءة، والذهاب الى السينما والتصوير. ولا أعرف ما إذا كان حبي لفعل هذه الأشياء حينها ينبع من حقيقة أن هذه النشاطات كان باستطاعتي أن أفعلها لوحدي، ولم أكن بحاجة أحد أو أصدقاء بجانبي لأستمتع بالقيام بها."

"بدأت أختنق"

وكل ما كبرت في العمر، كبر معها واشتد وزاد الشعور بالغضب من تقييد حريتها وفكرها وطموحها. وكل ما شاهدت مظاهرات النساء التي تطالبن بحقوقهن، تأكدت من انها ليست الفتاة الوحيدة التي تشعر بالظلم.

"كنت أرى بعينيّ ما كان يحصل في أول السبعينات في أستراليا، كنت أرى مظاهرات الحركة النسائية الأسترالية على التلفاز، وأقرأ أخبارها في الصحف، وتاريخها في الكتب. وعرفت وقتها أنني لست المرأة الوحيدة التي تطالب بحقوق بل أن النساء في جميع أنحاء العالم تطالب بحقوقهن أيضا."

"ولكن كيف كنت سأتمكن من أن أشرح لوالدي هذه الحقيقة؟"

كانا يشاهدان هذا على التلفاز ويتسألان: "ما الذي يردنه هؤلاء، خوذهن الى السجن، يا لهن من نساء بلا تربية."
أليسار قررت أن تبحث عن طريق مختلف عن ذلك الذي رسمه أهلها لها. وكانت تبحث أيضا عن نفسها وطموحها في أماكن وهويات تساعدها في رسم الصورة التي كانت تتوق لترى نفسها فيها يوما ما.

"قررت ترك المدرسة بعد أن انتهيت من الصف الحادي عشر. لم أستمتع بالمدرسة ولا بالحياة المدرسية، وشعرت بأنني أريد أن أدرس شيء أحبه فعلا ويشعرني بالسعادة."

"كنت أريد أن أدرس التصوير والتمثيل."

"كل ما كنت أقترح بأني أريد أن أفعل هذا وذاك في حياتي، كان الجواب: "لا، لا يمكنك القيام بهذا"."
Alissar Gazal
Alissar Gazal Source: Alissar Gazal/ Heidrun Lohr
تقول أليسار أن تحديد مصير مستقبلها كان بيد والديها. سمحوا لها بدراسة التصوير لعام واحد. ولكن لم يسمحوا لها بأن تمارس المهنة.

"كل قرار كنت أرغب باتخاذه كانوا يحبطوه، لم أحصل على دعمهم. لو كنت شاب أريد أن أفتح أصبح مصورا محترفا لكانوا دعموني لأصبح واحدا، كانوا سيدعمونني في أي قرار أردت أن أتخذه."

أليسار كانت تتمنى الحصول على الدعم المعنوي.

"الدعم المعنوي مهم جدا لأي شخص لديه طموح ليتمكن من تحقيقه. ولكن لم أحصل عليه، بل كانوا يضحكون على أي شيء فعلته ويستهزؤون بأي فكرة فكرت بها لمستقبلي."

الاستقلالية

لم تجد خيار أمامها سوى العمل معهم في مصلحتهم الخاصة.

"عندما أتممت الـ 21 شعرت بأنه ليس لدي مستقبل داخل أو خارج المنزل. كل الأحلام التي حلمت بها عندما كنت 14 عاما عندما هاجرنا الى أستراليا اختفت تماما."

وصلت أليسار للسنة الفاصلة في حياتها، بعد نضال مطول للحصول على الحرية، والتوسل من أجل ملاحقة بعض من طموحاتها وأحلامها التي كانت متاحة للجميع الا لها. قررت ترك المنزل.

"قلت لهم بكل صراحة بأنني سأترك المنزل الجمعة القادمة لأعيش مع مجموعة من الأصدقاء في منزل مشترك"

فجع والدها ولم يصدق كلامها، وبدأ يسألها: "لماذا، ومن في أستراليا يحظى بالحياة المترفة التي تعيشيها – لا تدفعين إيجار منزلك، ولديك سيارة ونقود وتفعلين ما شئت."

فجاوبت: "معي نقود لأني أعمل، وعندي سيارة مستعملة اشتريتها لي شكرا جزيلا لك. ولكن، أنا لا أفعل ما أريد أبدا. أنا أحتاج أكثر من أسبوع لأقنعكم وأفاوضكم وأجيب عن عشرات الأسئلة لتفكروا بالسماح لي بالخروج من المنزل.

فقال لها: "وماذا سيقول عنا الناس؟"

فجاوبت: "هل نعيش لأنفسنا أم للناس؟ أنت هاجرت من لبنان ومن مضايقة الناس الاجتماعية والسياسية ولتهرب من كلام الناس، لتقول لي الآن ماذا سيقول عنا الناس؟ لماذا جئت بنا الى هنا إذا؟
Alissar Gazal
في هذه الحلقة من بودكاست "الهوية" تتحدث أليسار غزال عن الأسباب التي دفعتها كفتاة عربية، تعيش في كنف عائلتها في أستراليا، من انتظار الفرصة الأولى لتترك منزلهم. و Source: Alissar Gazal

الشعور بالحرية

عاشت مع مجموعة من أصدقاء في منزل مشترك، وبالرغم من أن فراشها في منزل أهلها كان أكثر ترفا من فراشها في هذا المنزل، الا أنها شعرت براحة فيه من نوع آخر.

"تأمل بأن تصحو من النوم وتعد فنجان من القهوة أو الشاي. تختار ما تريد أن تفطر به أو الاستغناء عن ذلك ان لم تشعر بالجوع. ترتدي ما تريد أن تلبسه، وان لم يكن لديك عمل في هذا اليوم تقرر بأن ما تفعله في هذا اليوم من دون أن يقوم أربع أشخاص في المنزل بتحديد مسار اليوم لك واختيار أحاثه."

بعد مرور أشهر طويلة على تركها المنزل ورفضهم لزيارتها في منزلها ومرض والدتها وزعل والدها، الذين لم يقاطعوها وكانوا يلتقون بها في العمل، فقدوا الأمل برجوعها الى منزلهم. وخوفا من خسارتها للأبد، قرر والدها تقبل قرارها الذي فرضته على الجميع بالقوة. وشعرت ولأول مرة بأنه فكر فيها واحترم رأيها ورغبتها.

وقال: "إذا لم ترغبي بالعيش معنا بعد الآن أتفهم ذلك، ولكن لما تعيشين بالإيجار، قومي بشراء منزل."

فكرت أليسار بكلامه وقررت: "وقتها قمت باستغلال الفرصة، وقلت لنفسي ان قمت بشراء منزل سيشعر والدي بأني أعيش في بيتي ويتفاخر بأن ابنته تمكنت من شراء منزل. فهمت وقتها ما الذي أراده ليتقبل الوضع، وقررت أن أحقق رغبته وهو فرح كثيرا."

كانت تعلم بأن ما قامت به لم تكن وطأته سهلة عليهم ولا عليها. ولكن أصبح اتخاذ هذا القرار ضروريا.

"ما زلت أشعر حتى الآن بأن أهلي لم يشجعوني أن أفعل شيء كبير في حياتي، ولكن شجعوا الصبيان ليفعلوا كل ما يرغبون بفعله. وذلك لأن حلمهم لي كفتاة كان صغيرا."

"حلمهم لي كان أن أتربى لأكون فتاة نظيفة وطيبة وجميلة حتى يأتي أحد ليتزوجني لأصبح زوجة فلان أو أم فلان."
Alissar Gazal
web series I Luv U But… Source: NAZ photography

المطالبة بالمساوة

اليوم، قد تتمكن أليسار من ايجاد مبرر لجزء صغير من قسوة والديها عليها، القسوة التي لم تتمكن لسنين طويلة الا أن تفسرها بكرههم الها.

"لم أشعر يوما بأن المعاملة كانت معاملة تدل على الحب. ولكن عندما أنظر الى الوراء، بالطبع كانوا يحبونني ويخافون ويغارون عليّ."

ولكنها لم تجد مبرر مقنع للتفرقة في المعاملة التي استخدمها أهلها ويستخدمها الأهل بين الذكر والأنثى. 

"ان لم تتمكن الفتاة من الاستقلال في هذا البلد، وتعيش الحياة التي تريدها، هذا يعني بأنها اما هي ملك لوالدها، أو إخوانها أو زوجها. ونحن لم يخلقنا الله لنكون عبيد. الله خلقنا وأعطانا العقل لنفكر ونأخذ قرارات في حياتنا، ليس بالضروري أن تكون كلها صحيحة، ويجب أن نقوم بأخطاء لأننا نتعلم من أخطائنا."

"أشعر بالغضب عندما أرى انه ما زال هناك عائلات تضع حدود للفتيات وتطلق العنان للشباب."
أليسار غزال: ممثلة ومنتجة لبنانية أسترالية، اشتهرت بفيلم On the Ropes (2018) ،Fighting Season (2018) و I Luv U But (2012). جاءت إلى أستراليا من لبنان في أوائل السبعينيات، وتخرجت من جامعة أستراليا الوطنية في كانبرا. بدأت مشوارها الفني في سيدني بالانضمام إلى أول فرقة مسرحية باللغتين العربية والإنجليزية TAQA Theatre في 1991-1999. أليسار هي عضو في لجنة إدارة مهرجان الفيلم العربي ولجنة اختيار أفلام مهرجان سيدني السينمائي. وهي أيضًا عضو مؤسس في جوقة سيدني العربية، وقد اشتهرت بتيسير ندوات ثقافية في مدينة Parramatta .

يمكنكم متابعة بودكاست الهوية عبر البحث عن  على منصات تحميل البودكاست المفضلة لديكم للاستماع الى الحلقات الجديدة أسبوعيا فور صدورها مجانا.







شارك